کد مطلب:309780 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:292

القسمت 17


قمر الرابع عشر من شوّال یتألق فی السماء یزدهی بهالته بین النجوم، و قنادیل المدینة تتوهج.. ترسل ضوءاً ذهبیاً. وبدت الكوی ینابیع تتدفق بالنور.

وفی المسجد التف المؤمنون حول الرسول، شباب و شیوخ و كهول یتداولون أمراً هامّاً. قریش تزحف صوب یثرب. قال النبی:- نقیم فی المدینة وندعهم حیث نزلوا فان أقاموا أقاموا بشر مقام.. و ان هم دخلوا علینا قاتلناهم.

اخرج النفاق رأسه إذ قال ابن سلول و قد صادفت الفكرة هویً فی نفسه:

- نعم یا رسول اللَّه... نقیم فی المدینة.

ساد الوجوم وجوه الشباب... كانوا یتمنون الحرب فی الصحراء..


والحرب فی أزقة المدینة لا یشبع حماسهم... و كیف ینعمون بحرب تشارك فیها النسوة و الأطفال. هتف شاب لم یحضر بدراً یتمناها منذ عام:

- ماذا ستتحدث العرب.. جبنا عن اللقاء و قریش تشنّ عینا الغارات.

هتف آخر:

- اخرج بنا یا رسول اللَّه إلی أعداتنا.. حتی لا یزدادوا جرأة.

ساد الحماس و بلغ ذروته، وضاع صوت العقل. وعندما ینفلت زمام العاطفة تصبح فرساً جموحاً لا تصغی لأحدٍ و لا یقف فی طریقها شی ء.

هبّت العاصفة لا یعتورها أحد، وأضحی من الحكمة مماشاتها و توجیهها، والحدّ من عنفها.

انتبه بعضهم و قد تأثر لمنظر النبیّ یعدل درعه، عرضوا علیه القبول برأیه و البقاء فی المدینة، فقال بحزم:

- ما ینبغی لنبیّ لبس لامته أن یضعها حتی یحكم اللَّه بینه و بین عدوّه.

وأردف لیحكم قبضته علی العاصفة:

- علیكم بتقوی اللَّه و الصبر عند البأس وانظروا ما آمُركم فافعلوا.


وقفت فاطمة تودّع أباها و بین ذراعیها صبیّ له من العمر شهر، اعتنقه النبیّ.. راح یملأ صدره من شذی عطر له رائحة الجنّة، و همس بحبّ:

- انّه ریحانتی من الدنیا.. و اُمّه صدّیقة.

ودّع الرسول یثرب، و معه ألف مقاتل، و فی ثنیّة «الوداع» حیث الجادّة التی تؤدی إلی مكة. و عندما وصل «الشیخان» و هما جبلان فی أطراف المدینة قام النبیّ باستعراض لقوّاته فأرجع من الشباب من كان دون الخامسة عشرة...

طلع الفجر و وصل النبیّ «الشوط»- بستان بین المدینة و جبل «اُحد»....

و ذرّ رأس النفاق قرنه فأعلن تمرّده علی الرسول.

عاد «بن أبیّ» و عاد معه ذیوله و كانوا ثلاثمئة، فأحدث ذلك شرخاً فی جیش النبیّ و هو علی و شك الاشتباك.

عسكرت قریش فی وادی «قناة» وانتشرت فی أرض سبخة، قاطعةً الطریق علی جیش المسلمین.

تساءل النبی عن دلیل یمكنه هدایة الجیش علی طریق یؤدی إلی اُحد لا یمرّ علی جیش المشركین.

هتف «أبوخیثمة»:


- انا یا رسول اللَّه.

- سر علی بركة اللَّه.

سلك الدلیل «حرّة» بنی حارثة و هی أرض ذات حجارة سوداء منخورة كأنها شویت بالنار... كانت المزارع علی یمین الجیش المتقدم وقوّات المشركین علی شمالهم واتجه الدلیل شمالاً نحو جبل اُحد، وقطع وادی «قناة».

دخل الجیش الشِعب المطلّ علی الوادی، تاركاً الهضاب والجبل وسفوحه فی ظهره.

نظم النبی جنوده صفوفاً فی ثلاثة أنساق و انتخب خمسین من أمهر الرماة، وأمرهم بالمرابطة فوق جبل «عینین» و هو جبل صغیر یقع فی الجنوب الغربی من معسكر النبی و علی بعد مئة و خمسین متراً من مقرّ القیادة، و كان اجراؤه هذا تحسباً من حركة التفاف یقوم بها المشركون، و كان النبی یعلم ان لدی قریش قوّة كبیرة من الفرسان تحت إمرة «خالد بن الولید» و كانت هذه القوّة مصدر قلق للنبی.

قال النبی لابن جبیر قائد الرماة:

- انضحوا الخیل بالنبل، لا یأتونا من خلفنا...

والتفت إلی بقیة الرماة:

- احموا لنا ظهورنا لا یأتونا من خلفنا وارشقوهم بالنبل فان


الخیل لا تقدم علی النبل.. إنّا لا نزال غالبین ما لبثتم مكانكم، اللّهم انی أُشهدك علیهم.

و للمرّة الأخیرة أوصاهم النبی.

- إن رأیتمونا تتخطفنا الطیر فلا تبرحوا مكانكم حتی أرسل الیكم، و ان رأیتمونا ظهرنا علی القوم و أوطأناهم فلا تبرحوا حتی أرسل الیكم، و ان رأیتمونا غنمنا فلا تشركونا، و ان رأیتمونا نقتل فلا تغیثونا و لا تدافعوا عنا.

نظم النبی قواته واضعاً فی الخط الأول رجالاً أولی بأسٍ شدید بدا فیهم علی و حمزة و أبودجانة و سعد بن الربیع و رجال حملوا أرواحهم فوق الأكف، كما خصّص كتیبة بقیادة المقداد للتنسیق مع الرماة فی صدّ هجوم محتمل قد یقوم به فرسان قریش.

تذكر النبی رؤیاه. عادت تتمثل أمامه من جدید.. رأی ابقاراً تسر الناظرین.. رآها تذبح فتشحط دماً عبیطاً ورأی فی حدّ سیفه ثلماً...

تجمّعت فی السماء النذر و بدت السیوف بین الغبار بروقاً نزلت إلی الأرض و شدّ أبودجانة حول رأسه عصابة الموت كجرح یفور و أدرك الذین رأوه أن الرجل قد اختار الموت طریقاً إلی الحیاة.

الرجل الذی اختارته السماء رسولاً إلی الأرض یبلّغ رسالته:

- ما أعلم من عملٍ یقرّبكم إلی اللَّه إلَّا و قد أمرتكم به، و لا أعلم


من عملٍ یقربكم إلی النار إلَّا و قد نهیتكم عنه، وانه قد نفث الروح الأمین فی روعی انه لن تموت نفس حتی تستوفی رزقها لا ینقص منه شی ء.. المؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد اذا اشتكی تداعی الیه سائر الجسد.

و فی المعسكر الآخر فی أرض سبخة تعالت أصوات الدفوف والطبول تشف عن روح همجیة متعقشة لرؤیة الدماء... تسكر علی صوت طبول الحرب تدق بعنف فیستیقظ الشیطان یعربد و یدمّر.

خرجت خمس عشرة امرأة ینشدن أناشید الثأر:

و كان صوت هند له نبرة نمرة متوثبة:


نحن بنات طارق

نمشی علی النمارق


الدر فی المخانق

والمسك فی المفارق


ان تقبلوا نعانق

ونفرش النمارق


او تدبروا نفارق

فراق غیر وامق


وحلم رجال بلیالٍ حمراء.. لیال ملیئة بالمتعة. و منوا أنفسهم


بسبی من یثرب فیهنّ حسان من الأوس أو الخزرج.

اتسعت الأحداق وعض الرجال علی النواجذ... و بدأت قریش الهجوم. بدأت قوّة من المشاة تساندها كوكبة من الفرسان بقیادة عكرمة بن أبی جهل هجوماً علی میسرة الجیش الاسلامی لتدمیرها، و من ثم النفوذ إلی عمق الشِعب و ضرب المسلمین من الخلف.

قوبل الهجوم العنیف برشقات كثیفة من النبال واعترض المقداد بقوّاته سیل المهاجمین وأرغمهم علی التراجع و من فوق سفوح أُحد تدحرجت الصخور و الحجارة فارتد المهاجمون و تشتتوا..

عاود الفرسان الكرة مرة بعد اُخری ولكن دون جدوی. وفی تلك اللحظات الحساسة أصدر النبی أمره بشن الهجوم المعاكس.. مستهدفاً قلب القوّات المتقهقرة و كان ثقل المعركة یدور حول «لواء» قریش من أجل اسقاطه و تحطیم الروح الجاهلیة. وسقط اللواء بضربة من علیّ.. ثم ارتفع مرّة اُخری ثم هوی علی الأرض... ثم ارتفع... ثم هوی ممزقاً فوق الأرض...

تزلزلت معنویان المشركین ودبّت فیهم الهزیمة و اطلقت هند ساقیها للریح وسقطت الدفوف و تبعثرت أمنیات زوج أبی سفیان وذهبت أدراج الریاح....

وفی غمرة النصر سقط حمرة. اخترق قلبه رمح وحشی..


سقطت ثلمة من سیف محمد.

وفوق جبل «عینین» كانت هناك معركة من نوع آخر.. معركة فی داخل النفوس رهیبة مشتعلة.. أشعلتها الغنائم المبعثرة فی الوادی.

وأخیراً وبعد صراع عنیف انتصرت النفوس الامارة بالسوء.. و غادر أكثر الرماة مواقعهم «لا یلوون علی شی ء» و (ابن جبیر) یدعوهم.. یذكّرهم بوصایا الرسول. غیر أن النفوس التی أصغت إلی فحیح الشیاطین نسیت همسات السماء.

كان خالد بن الولید ینتظر الفرصة و عندما شاهد منظر الرماة و هم یهبطون الجبل التمعت فی عینیه حمی الحرب، فاندفعت الخیول كالعاصفة و عمت الفوضی صفوف الجیش الاسلامی...

وفرّ المسلمون لا یلوون علی شی ء، و الرسول ینادی:

- أنا رسول اللَّه.. هلموا إلی!

وبعد لأی تمكن النبی من تجمیع أكثر قواته و الانسحاب بهم نحو سفح الجبل.

صرخ أبوسفیان فی بطن الوادی:

- اعل هبل.

وجاء صوت الرسول:

- اللَّه أعلی وأجلّ.


- لنا العزی و لا عزی لكم.

- اللَّه مولانا و لا مولی لكم.

- یا محمد حنظلة بحنظلة و یوم بیوم بدر و الحرب سجال.

أمر النبی علیّاً أن یستطلع قوات قریش فقد تجتاح المدینة:

- انظر فإن جنبوا الخیل وامتطوا الإبل فانهم یریدون مكّة.. و ان ركبوا الخیل فانّهم یریدون المدینة..

وأردف النبی و قد برق العزم فی عینیه:

- والذی نفسی بیده لئن أرادوا المدینة لأُناجزنّهم.

جراح النبی تنزف.. تفور.. لا تعرف التوقّف. بالجراح الأنبیاء حمراء حمراء بلون الشفق، تبشّر بالنهار.. بشمس ساطعة ودف ء الربیع.